هل هذا الكلام صحيح؟
المسألة على أقوال كما سيقت وليس غريبا:
قول: منعها لغير الزوجة.
قول: منعها إذا كانت عادة للفاجرات.
قول: منعها للزوجة إذا لم يأذن لها.
قول: بمنعها مطلقا إلا لاستثناء معتبر كدفع ضرر وتصلح لحاجة كأن ترجعه لأصل الخلقة وذلك إذا غلظ وخرج عن الطبيعي.
والقول الأخير هو الصحيح وهو الذي فهمه ابن مسعود رضي الله عنه وهو بعينه الذي فهمته أم يعقوب, وسأدعك والنص بحادثته ثم نستخرج الشواهد وليكن رواية البخاري:
فقد روى بسنده عن علقمة، عن عبد الله، قال: «لعن الله الواشمات والموتشمات، والمتنمصات والمتفلجات، للحسن المغيرات خلق الله» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت، فقال: وما لي ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هو في كتاب الله، فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين، فما وجدت فيه ما تقول، قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]؟ قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه، قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه، قال: فاذهبي فانظري، فذهبت فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئا، فقال: لو كانت كذلك ما جامعتها ] صحيح البخاري (6/ 147)
ــــــ
## تعريف المتنمصة: قال البيهقي في الآداب (ص: 227) [والمتنمصة: التي تنتف الشعر من الوجه أو تنقش الحواجب حتى ترقه] بعض العلماء يرى أن النمص يدخل فيه نتف الشعر من الوجه [رغم أن من الوجه ما يشرع نتفه وبعضهم أوجبه كالذي ينبت في الذقن ..] ولعله لأن الحاجب من الوجه, وفي السنن الكبرى للبيهقي (7/ 510) قال الفراء: " النامصة التي تنتف الشعر من الوجه ومنه قيل للمنقاش المنماص لأنه ينتف به " وقول أبي داود أولى: قال في تحفة الأحوذي (8/ 55) [ويقال إن النماص يختص بإزالة شعر الحاجبين لترقيقهما أو تسويتهما, قال أبو داود في السنن النامصة التي تنقش الحاجب حتى ترقه]
الشواهد:
1- عبد الله = عبد الله بن مسعود هو راوي الحديث, وقول الراوي ليس حجة على الصحيح لكنها قرينة قوية معتبرة عند عرض الخلاف.
2- سياق النص: [الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ] ما هو القيد ؟ كلهن للحسن أي طلبا للحسن, فما وجه تقييده بإذن الزوج أو التدليس أو تشبها بالفاسقات أو غيره؟
3- جاءته أم يعقوب منكرة عليه فلما حجها قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه ! إذن هي فهمت منه أنها تحرم مطلقا سواء بإذن الزوج أو دونه. لأنها امرأة وزوجة. وفي رواية أنه قال لها [بل قد نهى عنه رسول الله ] في مشيخة البخاري.
4- رد عليها ابن مسعود قائلا: فاذهبي فانظري. فدخلت فلم تر شيئا, فقال لو كانت كذلك: ما جامعتها.!
5- بعيدا عن الشاهد: لاحظوا أن المرأة جاءت مجادلة منكرة قول ابن مسعود وانتقلت من دليل لدليل, حتى قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه, فلما أذن لها بالدخول دخلت عليها فلم تر شيئا, وهذا يدل على إصرارها, لكنها رجعت من غير دليل وفي رواية عند الطبراني: [ما رأيت شيئا ما رأيت شيئا] ورأيت في رواية في فوائد أبي الحسين الدقاق برقم (66) [قالت: فأستغفر الله عز وجل] , والمراد بيان أنه يمكن التفريق بين المتنمصة وغيرها خصوصا إن كانت امرأة مثلها.
شواهد وإلزامات:
1- بعض العلماء المعاصرين يدفعون قول القائلين بالمنع للتدليس أو التشبه بالفاسقات أو جوازها للزوج أن كل هذا ممنوع من جهات أخرى ولم يكن له حاجة, والحقيقة أن هذا ليس بالقوي إذ يجوز التخصيص بالنهي كما يحدث في بعض أنواع البيوع لاشتهارها مع توافر النهي عن الغش والتدليس والغبن, لكن الأوجه أن يقال: إن هذا فيه لعن مخصوص, كما أن النص أطلق الحكم على الفعل من غير قيد, أما الاستثناءات من ضرر فهي تجري على سائر المأمورات والمنهيات.
2- جماهير القائلين بحرمته للتدليس أو من أباحه إذا أذن الزوج يرون أن النمص من جنس الزينة وإذا فعلته لزوجها كان حقا له للاستمتاع, وعلى ذلك فيلزمهم أن يقولوا بحرمة أن تكشف وجهها وهؤلاء لا يرون وجوب ستر الوجه, فإن قيل إن هذا من الزينة الظاهرة المباحة قلنا إذا كانت هذه الزينة تمنع لأنها مدعاة للتدليس [فإن المرأة ترى صغيرة في أعين الرائي] فلاشك أنها مؤثرة نافذة في القلوب.
3- التعليل بالتدليس يقتضي إباحة التفليج والتوشم والوشر وسائر عمليات التجميل إذا أذن لها الزوج.
4- التعليل بالتشبه بالتدليس يلغي أثر قوله تعالى: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} وقوله في الحديث [المغيرات خلق الله]. قال الحافظ: [ قوله المغيرات خلق الله هي صفة لازمة لمن يصنع الوشم والنمص والفلج وكذا الوصل على إحدى الروايات] فتح الباري (10/ 373), وهي أولى من حصرها على التفليج, ذكره هذا التوجيه السيوطي عن النووي في شرحه على ابن ماجة وقول الحافظ أقوى وهو اختيار الملا علي القاري في المرقاة والمناوي في التيسير, وذكرهما السندي في حاشيته على ابن ماجة وجهين دون تعقيب, وهو ظاهر قول الطبري وابن حزم من قبل ثم هو قول ابن هبيرة في الإفصاح قال: ويجمع ذلك كله قوله (المغيرات خلق الله).] الإفصاح (2/ 17)
5- ما جاء عن عائشة رضي الله عنها وقولها [أميطي عنك الأذى ما استطعت] دليل خارجي عن النزاع فالشعر الطبيعي [الذي هو محل النزاع] لا يقال فيه [أذى] وإنما أولى بهذا الوصف [الشعر الزائد]
أقوال بعض العلماء القائلين بالمنع:
* قال الطبري: [ فى هذا الحديث البيان عن رسول الله أنه لا يجوز لامرأة تغيير شىء من خلقها الذى خلقها الله عليه بزيادة فيه أو نقص منه التماس التحسن به لزوج أو غيره] شرح البخارى لابن بطال (9/ 167)
* وذهب ابن حزم إلى مثل ما قال الطبري وشدد حتى قال: [ لَا يجوز حلق لحيتها وَلَا عنفقتها وَلَا شاربها وَلَا تَغْيِير شَيْء من خلقهَا بِزِيَادَة وَلَا نقص] عمدة القاري (19/ 225)
* قال النووي: [وهذا الفعل حرام إلا إذا نبتت للمرأة لحية أو شوارب فلا تحرم إزالتها بل يستحب عندنا وقال بن جرير لا يجوز حلق لحيتها ولا عنفقتها ولا شاربها ولا تغيير شيء من خلقتها بزيادة ولا نقص ومذهبنا ما قدمناه من استحباب إزالة اللحية والشارب والعنفقة وأن النهي إنما هو في الحواجب وما في أطراف الوجه] شرح مسلم (14/ 106)
* استظهره ابن الجوزي وأثبته مذهبا لابن مسعود إذ قال: [وَظَاهر هَذَا الحَدِيث أَن الْكَلَام مُطلق فِي حق كل من فعل هَذَا. وَقَول ابْن مَسْعُود يدل على ذَلِك. وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ المتصنعات من النِّسَاء للفجور، لِأَن مثل هَذَا التحسن دأبهن. وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهن المموهات على الرِّجَال بِمثل هَذِه الْأَفْعَال لتغر المتزوج.] كشف المشكل (1/ 274) لا يعني هذا أن يكون مذهب ابن الجوزي بالضرورة وإنما المراد إثبات أن هذا مذهب ابن مسعود, وإلا فقد ذكر ابن مفلح عن ابن الجوزي أنه منعها للتدليس.
* هو قول جماهير الشراح للحديث, فهو قول الكرماني في شرحه على البخاري, وأما القسطلاني والملا علي القاري فكلاهما يذكران قول النووي دون تعقيب, وكذلك فعل الشوكاني في نيل الأوطار, ومثلهم شرف الحق آبادي في عون المعبود.
ــــــــ
الخلاصة: العلة في المنع هو تغيير خلق الله تعالى, وهي صفة لازمة لسائر المنهيات المذكورة في الحديث, أما الاستثناءات فهي تجري على سائر الأمور والمنهيات فأيما امرأة زاد الشعر عن حده الطبيعي في أي موضع كان أبيح لها إزالته وكذا دفعا للضرر.
والحمد لله وحده.
أبو صهيب الحنبلي
0 التعليقات:
إرسال تعليق