الْأَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ مِنْ تَمَامِ الاجْتِمَاعِ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لِمَنْ تَأَمَّرَ عَلَيْنَا وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا
الحمد لله وحده ...
فهذا شرح مختصر للأصل الثالث من الأصول الستة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب, وقد اقتبسته من شرحي على الأصول الستة واخترته طمعا في درء شبهات مرجئة المدخلية إذ تسارعوا وتسابقوا على شرح ذلكم الكتاب بسبب ذلكم الأصل وهو عليهم لا معهم كماا سنبين ذلك بإذن الله.
يقول المصنف:
الْأَصْلُ الثَّالِثُ :
أَنَّ مِنْ تَمَامِ الاجْتِمَاعِ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لِمَنْ تَأَمَّرَ عَلَيْنَا وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، فَبَيَّنَ النَبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ هَذَا بَيَانًا شَائِعًا ذَائِعًا بِكُلِّ وَجْهٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ شَرْعًا وَقَدَرًا ، ثُمَّ صَارَ هَذَا الْأَصْلُ لَا يُعْرَفُ عِنْدَ أَكْثَرِ مَنْ يَدَّعِيْ الْعِلْمَ فَكَيْفَ الْعَمَلُ بِهْ؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرح:
[للْأَصْلُ الثَّالِثُ]
وهنا يذكر المصنف أصلا ثالثاً جعله من تمام الأصل الثاني ألا وهو الاجتماع في الدين ونبذ التفرق فيه, فبيان هذا الأصل, وقد يقال:
إذا كان الأصل الثالث من تمام الثاني, فكيف يجعل الكمال أصلا منفردا؟
والجواب: من وجوه:
1- أن الأصل لا يلزم أن يكون منفردا بذاته بل يُكتفى أن يبنى عليه غيره من جنسه, كما أن الأصل قد يكون دليلا أو مقيسا عليه.
2- والمصنف أورد تلك الأصول باعتبار المراد لا الإطلاق, وإلا فالأصول أكثر من ذلك كما بينا.
3- ويضاف على ذلك, أن لا بأس في إعادة جزء هام من أصل لبيان أهميته وللتأكيد على ضرورته.
مسألة2: إذا كان هذا الأصل بتلك الأهمية فما وجه استقلاله أو وجه أهميته وضرورته؟
والجواب: أن أهميته تكمن في كون الاجتماع في الدين ونبذ التفرق فيه لا يكون إلا بما يلي:
1- وجوب قيام الخلافة الإسلامية لحفظ جناب التوحيد ودفع التفرق فيه.
2- وجوب تنصيب إمام يقيم الحدود ويؤمن السبل ويقسم الفيء ويجاهد الأعداء ويحمي بيضة الإسلام.
3- وجوب طاعة الإمام في المعروف, ولو كان عبدا حبشيا.
وقول المصنف: [السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لِمَنْ تَأَمَّرَ عَلَيْنَا وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا]
وهذا نوع من الاقتباس, فقد اقتبس المصنف – رحمه الله – من الحديث المعروف الشاهد منه, وفيه مسائل:
1- فقوله [السمع والطاعة] ليس على إطلاقه, كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }([1]) فالسمع والطاعة, مقيدة بالمعروف دون المنكر إجماعا, وقال ابن عبد البر: [ولا يلزم من طاعة الخليفة المبايع إلا ما كان في المعروف لأن رسول الله لم يكن يأمر إلا بالمعروف وقد قال إنما الطاعة في المعروف. وأجمع العلماء على أن من أمر بمنكر لا تلزم طاعته قال الله - عز وجل -{وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}]([2])
2- قوله: [لمن تأمر علينا] فتأمر من الإمارة أي صار أميرا على المؤمنين, والإمارة هي الشرعية, أو بالغلبة فإذا كانت إمارته مشروعة فلا بأس وإن تغلَّب ولم يكن ثمة إمام فصحت بيعته مع الإثم خشية الإفساد والتفرق, على أن يحكم بالكتاب والسنة, وقال ابن تيمية: [وقد خاطبني بعضهم – أي بعض التتر - بأن قال ملكنا ملك ابن ملك إبن ملك إلى سبعة أجداد وملككم ابن مولى فقلت له آباء ذلك الملك كلهم كفار ولا فخر بالكافر بل المملوك المسلم خير من الملك الكافر قال الله تعالى: {ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} فهذه وأمثالها حججهم ومعلوم أن من كان مسلما وجب, عليه أن يطيع المسلم ولو كان عبدا ولا يطيع الكافر وقد ثبت في الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: [ اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ودين الإسلام] إنما يفضل الإنسان بإيمانه وتقواه لا بآبائه ولو كانوا من بني هاشم أهل بيت النبي فإن الله خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبدا حبشيا وخلق النار لمن عصاه ولو كان شريفا قرشيا]([3]), فمورد النصوص إنما تقع على نوعين من الحكام:
a. الحاكم العادل, فهذا لا يجوز الخروج عليه اتفاقا, وإن أجازوا الإنكار عليه كما في فعل سلمان مع عمر في قصة الجلباب, وكذا عبد الله بن عمرو مع معاوية لما جاء أميره ليأخذ أرضه كما في صحيح مسلم.
b. الحاكم الظالم. وهذا الأمر فيه على قولين:
i. أنه لا يجوز الخروج عليه, وإنما ينصح ويدعى للحق , وهو مذهب: سعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وظاهر مذهب عبد الله بن عمر وابن عباس, وأحمد بن حنبل وعليه الجماهير.
ii. مشروعية الخروج عليه, وهو مذهب عبد الله بن الزبير, والحسين بن علي, وعبد الله بن عمرو مأخذ من خروجه لتقال أمير معاوية إذ جاء ليأخذ أرضه, وهو مذهب الأوزاعي وسعيد بن جبير ويروى عن أبي حنيفة أنه كان يمد بعض الخارجين على الأمير بالسلاح, ويروى عن مالك تجويزه ذلك, قلت: والظاهر أن أكثر هؤلاء ليس مرادهم خلع الإمام الظالم وإنما تجويزهم القتال لأخذ الحقوق الشرعية, قال أبو محمد رحمه الله: فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص بقية الصحابة وبحضرة سائرهم رضي الله عنهم يريد قتال عنبسة بن أبي سفيان عامل أخيه معاوية أمير المؤمنين إذ أمره بقبض الوهط ورأى عبد الله بن عمرو أن أخذه منه غير واجب وما كان معاوية رحمه الله ليأخذ ظلما صراحا لكن أراد ذلك بوجه تأوله بلا شك، ورأى عبد الله بن عمرو أن ذلك ليس بحق ولبس السلاح للقتال ولا مخالف له في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا جاء عن أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان وأصحابهم أن الخارجة على الإمام إذا خرجت سئلوا عن خروجهم فان ذكروا مظلمة ظلموها أنصفوا وإلا دعوا إلى الفيئة فان فاءوا فلا شيء عليهم وان أبوا قوتلوا ولا نرى هذا إلا قول مالك أيضا]([4])
فائدة:
بعض الناس يدخل المستبدل للقرآن ضمن الظالمين الذين ذهب كثير من أهل العلم إلى منع الخروج عليه أو قتاله, بل يجعلون ذلك من أصول أهل منهج السلف – حاشا لله – وهذا باطل من أشد البطلان.
فالذي يستبدل القرآن بالقوانين الوضعية ليس واردا في النصوص البتة, خلافا لمرجئة الحكام الذين لم يفرقوا بين الظالم وبين المستبدل, فنصبوا الأحكام وأقوال السلف على المستبدلين الموالين للكفار, بل لم نسمعهم يطلقوا عليهم لفظ الظالمين ولو ظلما أصغرَ, وصدق المأمون حينما قال للنضر بن شميل: [ يا أبا الحسن إن الإرجاء دين الملوك ]([5]), ومن تتبع واستقرأ فهم السلف لعلم أن محل النزاع ومورده إنما على الحاكم الظالم الذي يقيم الحدود ويؤَمِّن السُّبل ويقسم الفيء ويحمي بيضة الإسلام بجهاد أعدائه, ومن ذلك قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: [لا بد للناس من إمارة بَرَّة كانت أو فاجرة فقيل : يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة ؟ فقال يقام بها الحدود وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء]([6]), فربما هذا الإمام عنده شيء من المعاصي أو الكبائر, إلا أنه يقيم الدين ويحمي بيضته, فهذا الذي وارد فيه النزاع بين أهل العلم, وأما الآثار الواردة في كون التارك على كفر أصغر فإما هي على أحد وجهين:
1- الأول: أنها في غير موضع الاستدلال, وذلك أنها وقعت مقابلة لمنهج الخوارج المكفرين بالكبيرة, فموضعها أن تقع على الذي يحكم بغير ما أنزل الله في فرادى الأعمال.
2- الثاني: أنها تكون آثارا ضعيفة أو لغير أهل السنة والجماعة.
قول المصنف:
[ فَبَيَّنَ النَبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ هَذَا بَيَانًا شَائِعًا ذَائِعًا بِكُلِّ وَجْهٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ شَرْعًا وَقَدَرًا ]
ومن حيث الشرع قد ذكرنا قدرا لا بأس به في الأصل الثاني لاشتراكهما في المعنى, وهناك أدلة أخص بهذا المعنى ومن ذلك:
ما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعا : " من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية " " الحديث " .ومنه ما روى الشيخان عن حذيفة في أثناء حديث : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم . قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك . قال الحافظ قوله : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم أي أميرهم . زاد في رواية أبي الأسود : تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك . وكذا في رواية خالد بن سبيع عند الطبراني : فإن رأيت خليفة فالزمه وإن ضرب ظهرك فإن لم يكن خليفة فالهرب . وقال الطبري . اختلف في هذا الأمر وفي الجماعة ، فقال قوم هو للوجوب ، والجماعة السواد الأعظم ، ثم ساق محمد بن سيرين عن أبي مسعود أنه وصى من سأله لما قتل عثمان : عليك بالجماعة ، فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة . وقال قوم : المراد بالجماعة الصحابة دون من بعدهم . وقال قوم : المراد بهم أهل العلم لأن الله جعلهم حجة على الخلق والناس تبع لهم في أمر الدين . قال الطبري : والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره ، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة . قال وفي الحديث : أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابا فلا يتبع أحدا في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر . وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث ، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها انتهى .]([7])
ومن حيث البيان القدري, فإن الاجتماع على إمام فيه منفعة عظيمة ونصرة للمسلمين وقوة وبأس على الكافرين, كما تقدم من قول علي – رضي الله عنه - وقد روى أهل السير والبيهقي في الدلائل في حديث وفد بني الحارث أنه سألهم: [« بما كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية ؟ » ، قالوا : كنا نغلب يا رسول الله من قاتلنا أنا ما كنا ننزع عن يد ، وكنا نجتمع فلا نفترق ، ولا نبدأ أحدا بظلم ، قال : فقال : « صدقتم »]([8]), ويقول ابن تيمية – رحمه الله -: [ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته والله تعالى لم يأمر بقتال كل ظالم وكل باغ كيفما كان ولا أمر بقتال الباغين ابتداء بل قال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل}. فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء فكيف يأمر بقتال ولاة الأمر ابتداء]([9])
يقول المصنف:
[ثُمَّ صَارَ هَذَا الْأَصْلُ لَا يُعْرَفُ عِنْدَ أَكْثَرِ مَنْ يَدَّعِيْ الْعِلْمَ فَكَيْفَ الْعَمَلُ بِهْ؟]
أي ومع كل تلك البينات والواضحات, فإنه لا يزال يجهل هذه الأمور, كثير ممن ينتسبون إلى العلم, ولاشك أن من يجهل هذا الأصل وهو الاجتماع على الإمام والسمع والطاعة له ولو كان حبشياً, فكيف ننتظر منهم عملا؟
وهذا حق إذ العلم قبل العمل, ومن فاته العلم إما ترك العمل أو صار عمله فاسدا ليس المنشود, وكلاهما في السوء سواء., والله تعالى أعلم.
نسأل الله أن يرزقنا وليا شرعيا يقودنا بكتاب الله تعالى, وليس بصنم الديموقراطية وطغيان العلمانية!
ـــــــــــــــــــــــــــ
والحمد لله في الأولى والآخرة.
حواشي:
ـــــــــ
([1])[النساء: 59]
([2])التمهيد (23/ 277)
([3])مجموع الفتاوى (28/ 542)
([4]) المحلى (11/ 99)
([5]) الأسماء والكنى للدولابي برقم [613], وتروى أيضا عن رقبة بن مصقلة.
([6])السياسة الشرعية (ص: 87)
([7])تحفة الأحوذي (5/ 456) بتصرف يسير جدا.
([8]) دلائل النبوة للبيهقي [6\11], وذكره ابن هشام في السيرة [2\593] وغيرهما والحادثة مشتهرة بين أهل السير.
([9])منهاج السنة النبوية (3/ 231)
____________
أبو صهيب الحنبلي
0 التعليقات:
إرسال تعليق