تعديل

الثلاثاء، 24 مارس 2015

الخلاف في ماهية مذهب مرجئة الفقهاء وحكمهم فيه

فهاكم حكاية الخلاف في ماهية مذهب مرجئة الفقهاء وحكمهم فيه اقتنصته من شرحي على الإيمان للقاسم بن سلام.
فصل في خلاف مرجئة الفقهاء مع أهل السنة:
اختلف العلماء في حقيقة مخالفة مرجئة الفقهاء على ثلاثة أقوال:
1- فذهبت طائفة إلى أنهم على بدعة حقيقية ومخالفة صريحة لمذهب السلف, وقالوا: إنما خالفوا لفظا ومعنى, فمن حيث اللفظ أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان, ومن حيث المعنى, لم يجعلوا الإيمان لازما لعمل القلب وذلك أنهم لا يكَفِّرون بترك العمل بل لكونهم يرون أن الإيمان هو التصديق فضده الجحود وما كان من غير الجحود من المكفرات المجمع عليها فلا يعتبرونها إلا دليلا على الكفر أو أنه لا يخرج إلا من كافر, وعلى هذا فيصح عندهم أن يكون الرجل فاعلا للكفر فيما ظهر لهم مسلماً عند الله.([1])
2- وتساهلت طائفة أخرى وقالت: إن الخلاف بين أهل السنة وبين السلف لفظي فقط لا ينبني عليه مخالفات, وإنهم يقولون بالتلازم, وأصل مذهب المرجئة أنهم نفوا التلازم بين القلب والجوارح, ولا ينسحب هذا على مرجئة الفقهاء.
3- وتوسطت طائفة فقالت: بل ينظر لمذهبهم من اتجاهين من حيث المعنى, ومن حيث اللفظ, فوافقت السلف من حيث المعنى إجمالا من كونهم: يقولون: إن المعصية تضر, وخالفوا من حيث اللفظ, فقولهم بدعة مخالفة للنصوص وإجماع السلف.
قلت: ولمعرفة حقيقة الخلاف لابد من الوقوف على ثلاثة اعتبارات:
- حقيقة مذهب مرجئة الفقهاء.
- النظر في علة ذم السلف للإرجاء.
- هل يقع الذم لمجرد المخالفة اللفظية أم لا؟
فبالنظر للاعتبار الأول: فإن مرجئة الفقهاء يخالفون السلف فيما يلي:
1- في تفاضل الإيمان والذي عندهم هو التصديق, إذ ينكرونه – أي التفاضل - والسلف يثبتونه.
2- في الاستثناء, لا يستثنون مطلقا لكون الإيمان – عندهم - شيئا واحداٍ وليس يدخل فيه العمل ابتداء. خلافا للسلف فإن من لم يستثن منهم فإنما أراد الإيمان بالله ومن استثنى فإنما أراد العمل, وهكذا الجمع بين أقوالهم, يستثنى في العمل ويمتنع في الإقرار. 
3- يخرجون العمل عن مسمى الإيمان, والسلف يجعلونه ركنا فيه, فوافقوا المرجئة في إخراجه, وخالفوا الجهمية في جعل المعصية تضر كما أن الطاعة نافعة وينبني عليهما الثواب والعقاب, يقول شيخ الإسلام: [ وأنكر حماد بن أبى سليمان ومن اتبعه تفاضل الإيمان ودخول الأعمال فيه والاستثناء فيه وهؤلاء من مرجئة الفقهاء وأما إبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة شيخ حماد بن أبى سليمان وأمثاله ومن قبله من أصحاب ابن مسعود كعلقمة والأسود فكانوا من أشد الناس مخالفة للمرجئة وكانوا يستثنون في الإيمان لكن حماد بن أبى سليمان خالف سلفه واتبعه من اتبعه ودخل في هذا طوائف من أهل الكوفة ومن بعدهم ]([2]).
4- وتفرع على هذا أيضاً أنهم لما جعلوا الإيمان هو القول فقط – القلب واللسان – جعلوا الكفر هو الجحود وما يكون من الأعمال المكفرة فإنما هو لكونه لا يخرج إلا من كافر, وافقوا مذهب ابن الراوندي وبشر المريسي قالا : الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان جميعا والكفر هو الجحود والإنكار والسجود للشمس والقمر والصنم ليس بكفر في نفسه ولكنه علامة الكفر.]([3]) وهذا الاعتبار هو الذي نظر له أصحاب القول الأول أكثر من غيره.
وبالنظر للاعتبار الثاني: فنظر أصحاب القول الثاني إلى أن المقصود من ذم السلف للإرجاء هو اعتقادهم أنه لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا ينفع مع الكفر طاعة, ومرجئة الفقهاء لا يعتقدون ذلك بل يجمعون على استحقاق العاصي للإثم واستحقاق المطيع للثواب, وأنهم خالفوا غيرهم بأن جعلوا عمل الجوارح لازما للتصديق. بينما يعارضون أصحاب القول الثالث بما حاصله: أن السلف ذموا أهل الإرجاء لما فيه من هدم الدين بإخراج ما هو منه, وذلك أن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل ونية لا تجزئ واحدة عن أختها, كما هو مروي عن الشافعي, وابن عيينة, وجماعة, واشتدوا على هذا, بل إنهم جعلوا من قال: إن الإيمان يزيد وينقص فقد خرج عن الإرجاء, قال ابن المبارك: [ ومن قال الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فقد خرج من الأرجاء أوله وآخره ]([4])
وبالنظر إلى الاعتبار الثالث: 
فقد نظر إليه أصحاب القول الثالث: وقالوا: هو خلاف لفظي لا ينبني عليه أثر عندهم ولا مشاحة في الاصطلاح, ولكونهم لم يلتزموا آثاره فقالوا: إن المعصية تضر, وجعلوا العمل لازم القول – قول القلب واللسان – ومن لم يأت بالعمل لم يأت بالتصديق, قلت: وقد يقال أيضا: إن الأثر الذي استدل به أصحاب القول الأول ليس فيه حجة لدعواهم, وذلك أن القول بعدم الزيادة والنقصان كان علامة على الإرجاء, ويدل على ذلك أنه لو قال رجل بزيادة الإيمان ونقصانه ثم ادعى أن العمل ليس ركنا فيه لم يكن خارجا عن مذهب المرجئة, ويؤيد ذلك ما رواه الآجري عن الفضيل أنه قال: [ الاستثناء ليس بشك وقال: " المرجئة كلما سمعوا حديثا فيه تخويف قالوا هذا تهديد " ]([5]), والمراد أنهم كانوا لا يبالون بما جاء من وعيد الله – تعالى – وتهديده, فدل ذلك على تزامن القول بالاستثناء - وما يشبهه مما له علاقة بدخول العمل في مسمى الإيمان -, مع القول بعدم تأثير المعصية وهو أصل مذهب الإرجاء الذي ذمه السلف.
لكن يعارض قولَهم أمران:
- الأول: أن أصل تسمية الإرجاء إرجاء هو إرجاء – أي تأخير - العمل عن مسمى الإيمان.
- الثاني: أن هذه المخالفة تفرَّع عليها مسائل كل مسألة منها كافية في نسبة صاحبها إلى البدعة, وهي: القول بعدم الاستثناء مطلقا وأنه كفر, والقول بعدم التفاضل, وأن الإيمان شيء واحد لا يتبعض.
- بل زد عليها ثالثة: أن السلف كانوا يذمون اللفظية مع كون كلامهم ليس صريحا في القول بخلق القرآن, يقول أبو جرير الطبري: [ سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يذكرون عنه – أي الإمام أحمد - أنه كان يقول من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال هو غير مخلوق فهو مبتدع ]([6]), وأما ما استدل به من أثر الفضيل, فلو سلمنا بصحة ديمومة التزامن بينهما عند السلف – والذي أبطلناه بقول أحمد والذي روي عن غيره – فذم بدعة تتزامن مع أخرى لا يعني عدم ذمها منفردة وإذا انفردت دل ذلك على بطلان كونها لازمة له, بل لما قيل لأحمد بن حنبل عن أناس لا يستثنون وهم يقولون الإيمان قول وعمل أنكر عليهم ذلك, فقد روى الخلال بسنده عن حبيش بن سندي أنه دخل على أبي عبد الله شيخٌ فقال له: إنهم يقولون لي إنك شاك قال بئس ما قالوا ثم خرج. فقال: ردوه, فقال: أليس يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص قال نعم قال. قال هؤلاء مستثنون قال له كيف يا أبا عبد الله؟ قال: قل لهم زعمتم أن الإيمان قول وعمل فالقول قد أتيتم به والعمل فلم تأتوا به فهذا الاستثناء لهذا العمل ]([7]), فأنكره رغم كونهم يقولون إن الإيمان قول وعمل.([8])
والملاحظ في المتنازعين في المسألة أنهم نصبوا كلام شيخ الإسلام – وهو من أعلم وأعرف الناس بمذهبه
_________
أبو صهيب الحنبلي

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More